

المصدر: رحلة التيجاني التي بدأها بتاريخ 1307م– من ص 214 إلى 220
[( وكان نزولنا في هذا اليوم بموضع يعرف بـ لماية، وهي قرية صغيرة وبها نخل يسير وقصور مرتفعة متفرقة، منها قرية تعرف بقرقوزة – الأولى راء والثانية زاي- وبها آثار قديمة وكانت لها غابة نخل فأهملت وبطل ثمارها فبتنا تلك الليلة بـ لماية كما تقدم.
ثم أصبحنا يوم الأربعاء الثامن والعشرين من هذا الشهر وهو شهر ربيع الأول (أغسطس) فحللنا بمنزل زنزور، فرأيت غابة متسعة الأقطار ملتفة الأشجار وبها مياه عذبة وأكثر شجرها الزيتون وأكثره من الغرس القديم على نحو زيتون الساحل، وليس يعظم شجرة في موضع من المواضع ما يعظم في هذه القرية، وبها مع ذلك نخل كثير ورطبة متناهي الطيب، وبها أيضا من شجر التفاح والرمان والعنب والتين كثير وهي كثيرة القصور وقد استولى الرمل على أكثرها، وهم الآن يتوقعون استيلاءه على باقيها، ويقال أن طولها الآن نحو من خمسة أميال وعرضها نصف ذلك، وهي أشبه البقاع بجزيرة جربة هيأة غراسة، واتصال عمارة، ولا فرق في المنظر بينهما إلا أن مساكن أهل جربة أخصاص من النخيل كما تقدم ومساكن هؤلاء دور مبنية، وكانت فيما تقدم من أملاك أهل طرابلس فلما وقعت فتنة الميروقي بتلك الجهات وانقطع بسبب ذلك طرق أهل البلد إليها وانتفاعهم بشيء من غللها زهدوا فيها فباعوها من بعض البربر وهو أصل ملك المجريسيين وبها جامع متسع للخطبة يذكر أن عمرو بن العاص، أسسه واحتجر من هذا الجامع موضع فدفنت فيه أم سالم بن مرغم وكثير من ولده وضرب عليه بباب. ويجاور هذا الجامع قصر خرب متسع يعرفونه بالقصر القديم يقال إنه أول قصر بني بزنزور، ولم يبق منه الأن إلا سوره المحيط به وهم يعظمون أمره ويقولون أن فناء ما بقي منه يؤذن بخراب وفناء أهلها والى جانب هذا الحائط يكون مجتمعهم لنصب سوقهم وهي سوق نافته ضخمة يجتمع البربر بها من الأقطار المتنائية في كل جمعة فيبيعون هنالك جميع ما يجلبونه وأهل زنزور قوم من البربر هواريون ثم مجريسيون كما تقدم.
وهوراة أصلهم من البربر وأباهم هوار…، وكذا رأيت بخط أبي إسحاق الاجدابي، وسمي هوارة لكلمة قالها في حكاية طويلة اختصارها… دخل إلى بلاد المغرب طالباً لها فمر بجبال طرابلس فقال لغلامه أين نحن من الأرض؟ فقال له الغلام بأرض أفريقية، فقال: لقد تهورنا، والتهور الحمق، فسمي هوار لذلك!، وحالف بأفريقية قوما من زناتة فرأى عندهم العرجاء (بصكي) أم صنهاج ولمط بني لمط (ملطة) الأكبر وقد كان زوجها لمط توفي عنها وكانت جميلة فتزوجها هوار فكثر نسله منها واتسع فهم الهواريون ومجريس فخذ منهم، سموا باسم أمهم، وكانت لأبيهم ونيفن زوج أخرى تسمى تاسا ينسب إليها التاسيون فبنو مجريس وبنو تاسا بنو أب واحد.
وكانت لمجريس قبل هذا قوة واشتداد بقريتهم هذه وامتناع من العرب لم يكن أحد من العرب ولا غيرهم يدخل غابتها ولا يتجاوز شجرة واحدة منها إلا بأذن منهم، وكان بها إذ ذاك أجناد مرسومون في ديوان العطاء كلهم من أهلها قد عدوا هنالك جنداً لمن يلي طرابلس، ورسم لهم عطاء يقبضونه نم خراج طرابلس فكانوا يذيقون الأعراب شراً، ويكفون منهم فساداً كثيراً وضراً، ولم تزل العرب حاقدة عليهم إلى أن ضعف امرهم وتمكن مرغم بن صابر من الدولة وطلب من الملك أخذ هذه القرية بظهير فأعطيها وذلك في أول سنة 1278م، فأخبرني صاحبنا الفقيه أبوالعباس أحمد بن عبد السلام التاجوري قال: “لما وصل مرغم بن صابر إلى طرابلس أراني الظهير وسألني هل هو صحيح فقلت له: “انه صحيح”، وهو بالعلامة الجارية قال: فحينئذ أيقن بتملكها ولم يكن يصدق بذلك، ولا خطر له قط أن يجوزها سالك، فأحرى أن يجوزها مالك، ثم أخد في أضعافهم، والسعي في أتلافهم، إلى أن كاد يفنيهم، وفي وقتنا هذا متفرقون إلى جماعات كثيرة وأظهر فرقهم فرقة تعرف بالقياد وأمرهم راجع إلى رجل اسمه جابر بن مالك، وهو قائد الرئاسة فيهم، وتناظر هذه الفرقة فرقة أخرى تعرف ببني سلّام والقياد وبني حسين تجمع الفرقتين، ولا تزال الحرب قائمة بينهما وينضاف اليها باقي الفرق كالخطابيين وبني مزيله والإبراهيميين وبني رزق وبني مدنين وغيرهم في حال الحرب والسلم بالحلف والمعاقدة…وجميع هذه الفرق مقسمون بين المراغمة من الجواري على رتبهم، لكل واحد منهم جماعة يجبيها ويحميها، وربما تبايعوهم فيشتري احمدهم الرجل بأرضه ونسائة، وأولاده، بما يتراضيا عليه هو البائع، ويكونون خداماً له، يأخذ ما ينتجون من الارض فإذا عجزوا عن استغلال الارض او تكاسلوا، باعهم بأرضهم الى غيره.
وبظاهر زنزور كانت الوقيعة بين جعفر بن حبيب قائد باديس ابن المنصور ويانس الصقلبي الواصل من مضر وكانت منزلة جعفر بن حبيب بغربيها ومنزلة يانس بشرقيها فالتقيا فكانت الهزيمة على يانس وقتل هو وأكثر جنوده وحملت رؤوسهم إلى جعفر وذلك في سنة 999م، وقد قدمنا الخبر عن هذه الوقيعة مستوفى قبل هذا.
ومن أهل زنزور صاحبنا الفقيه أبويحي بن أبي بكر بن برنيق الهواري المجريسي انتقل من زنزور إلى طرابلس فاستوطنها، وله مشاركة في علوم أصول الدين على طريقة القدماء قرأها على الفقيه أبي محمد بن أبي الدنيا، ومنها الفقه وغير ذلك، لقيته بزنزور ثم لازمني بعد بطرابلس وهو شيخ كبير السن حفظة ممتع الحديث ذو دين متين ويذكر انه كان في صغره آية في الجمال وحسن الصورة وافتضح في محبته بعض الكبراء من أهل طرابلس فأدركه خبل في عقله فكان مولعا بتكرار اسمه لا يجيب من كلمه إلا لذلك، وأخبرني بعض أهل طرابلس إز هذا المفتضح المخبل العقل كتب يومياً في جدران طرابلس: أيلام من يحب أبا بكر؟ فقرأه بعض الظرفاء فكتب تحته أن كان أبا بكر الصديق، فأنت مؤمن على التحقيق، وأن كان أبا بكر بن برنيق، فانت فاسق زنديق.
وزرت بخارج الغابة من هذه القرية قبر الشيخ أبي محمد عبد الجليل الحكيمي وهو على ساحل البحر بيت يجاور مسجده الذي كان انفرد بنفسه، وتخلى عن أبناء جنسه، وهذا المسجد من المحارس القديمة البناء المفرطة الحصانة وإنما أضيف إليه لسكناه به، وبنائه إلى جانبه، وأخبرني جماعة منهم أنه مات وقد نيف عمره على المائة والعشرين وكانت وفاته يوم الأحد الثالث لشهر ربيع الأول المبارك من عام خمسة وثمانين وستمائة، رأيت هذا مكتوباً على قبرة.
وعلى مسافة يسيرة من مسجده هذا من جهة غربية على الساحل أيضا مسجد يعرف بسيقاطه- بكسر السين المهملة وبالقاف- ابتناه الفقيه الصالح أبو الحسن السيقاطي رحمه الله وبه كان يتعبد وهنالك قبره زرته ودعوت عنده، وكانت وفاته قديما سنة 1029م وخرج جميع أهل طرابلس ومن حف بها من النواحي والبلاد فصلوا عليه وكان له يوم مشهود وتوفيت لمخدومنا في أثناء إقامتنا بزنزور ابنه صغيرة فدفنت بخارج مسجد سيقاطة هذا)].
———————
وقد علق الشيخ الطاهر الزاوي على استعباد الاعراب من بني مرغم لاهل جنزور قائلاً
موضوع مرتبط