

لوسيوس أبوليوس شخصية غريبة جديرة بالتصوير، أكثر من شخصية منكاني المتعدد الكفايات. وكان مولده في مدورا Madaura من أسرة عريقة النسب (124م)، وقد درس فيها وفي قرطاج وأثينا، وبدد ثروة كبيرة ورثها عن أسرته، وأخذ يتنقل من مدينة إلى مدينة ومن دين إلى دين، وانضم إلى الجماعات ذات الطقوس الدينية الخفية ومارس السحر وألف كتباً كثيرةً في موضوعات تختلف من اللاهوت إلى مسحوق الأسنان، وألقى محاضرات في الفلسفة والدين في روما وغيرها من المُدن.
ثم عاد إلى أفريقية وتزوج في طرابلس من سيدة تكبره وتفوقه في الثراء. فلما فعل هذا رفع أصدقائها وورثتها المنتظرون الأمر إلى القضاء مطالبين بإلغاء الزواج، واتهموه بأنه حصل على موافقة السيدة عليه بفنون السحر؛ ودافع الرجل عن نفسه أمام المحكمة بخطبة وصلت إلينا بعد أن أدخل عليها بعد أيامه كثيراً من الصقل والتنميق، وكانت نتيجتها أن كسب القضية والزوجة، ولكن الناس أصروا على الاعتقاد بأنه ساحر؛ ولما ظهر المسيح أخذ حلفاء هؤلاء القوم يحيطون من قدره بتعداد معجزات أبوليوس.
وقضى الرجل بقية حياته في مدورا وقرطاجنة يمارس صناعتي المحاماة والطب، وكتابة الرسائل والخطب، ولكن معظم ما كتب كان في الموضوعات العلمية والطبيعية؛ وقد أقامت له مدينته نصباً تذكارياً نقشت عليه باللاتينية العبارة الآتية: الفيلسوف الأفلاطوني، ولو أنه استطاع العودة إلى الحياة لساءه ألا يذكره الناس إلا بكتابه الحمار الذهبي.
وهذا كتاب شبيه كل الشبه بكتاب ساتريكون Satyricon لمؤلفه بترونيون، بل هو أكثر منه غرابة وشذوذاً. وكان الاسم الأول لهذا الكتاب هو أحد عشر كتاباً في التحول Metamorphoseon Lebri Xi، وهو توسع غريب في قصة رواها لوسيوس البتراسي عن رجل انقلب حماراً. ويتألف من سلسلة غير مرتبطة من المغامرات، والوصف، والحوادث المحشورة فيها حشراً، يتخللها السحر، والرعب، والفحش في القول، والحديث عن التقوى المرجأة.
والورق ومنابع الماء، من صورٍ أخرى غير هذه الصور. وكذلك ظننت أن التماثيل والصور ستتحرك في مستقبل الأيام، والجدران ستتكلم وتروي أخباراً عجيبة، وإني سأسمع من فوري وحياً من السماء ومن شعاع الشمس .
والآن وقد أصبح لوسيوس مستعداً لأية مغامرة يريدها، يقول انه يدلك جسمه بمرهم سحري، وهو شديد الرغبة في أن يستحيل طائراً؛ ولكنه يدلك نفسه بهذا المرهم يستحيل حماراً. وتروي القصة بعدئذ ما يلقاه من المحن ذلك الحمار “الذي له إحساس الإنسان وإدراكه”. وكانت سلواه الوحيدة هي “أدني الطويلتين اللتين أستطيع بهما أن أسمع كل شيء ولو كان شديد البعد عنّي”.
وقد قيل له أنه سيعود إلى صورته الآدمية إذا عثر على وردة وأكلها، وهي أمنية يدركها بعد أن يمر بطائفة كبيرة من الحظوظ الحمارية منها ما هو طيب ومنها ما هو سيئ. ثم كره الحياة، فلجأ أولاً إلى الفلسفة، ثم إلى الدين؛ وألف دعاء يشكر فيه إيزيس شكراً بينه وبين ابتهال المسيحيين إلى أم الإله شبه عجيب.
ثم يحلق رأسه ويُقبل في الطبقة الثالثة من أتباع إيزيس المبتدئين. ويرصف طريقاً يعود به إلى الأرض بعد أن يفسّر حلماً يأمره فيه أوزريس “أعظم الآلهة” بأن يعود إلى وطنه ويشتغل بالقانون.
وما أقل الكتب التي تحوي كل ما يحتويه هذا الكتاب من السخف، ولكن أقل منها ما يعبر عنه سخفه بعبارة تماثل عبارة هذا الكتاب في طلاوتها. ذلك أن أبوليوس يحاول فيه كل أنواع الأساليب، ويلبس كل أسلوب حاوله أجمل لباس؛ وأكثر ما يحبه من الأساليب، هو الأسلوب المطنب المنمق المسجوع المتجانس الأحرف في بداءة الألفاظ، المليء بالعبارات العامية الطريفة، والألفاظ القديمة المهجورة، والكلمات المصغّرة العاطفية، والنثر الموزون الشعري في بعض المواضع. وقصارى القول أن الكتاب يضم إلى الأسلوب الشرقي القوي ما في الشرق من غموض وشهوانية .
ولعل أبوليوس قد أراد أن يشير من طرف خفي، مستنداً إلى تجاربه الخاصة، إلى ان الانهماك في الشهوة الجنسية يذهب بالعقل ويبدّل الآدميين بهائم، والى أن السبيل الوحيدة التي يعودون بها إلى آدميتهم اقتطاف زهرة الحكمة والصلاح. وهو يبدو أحسن ما يكون في القصص العارضة التي يلتقطها بأذنيه القويتين الدوارتين؛ كما نرى في قصة العجوز التي تسلي فتاة بأن تروي لها قصة كيوبت وسيكي – فتخبرها كيف وقع ابن الزهرة (فينوس) في حب فتاة حسناء، وهيأ لها كل أنواع السرور إلا سرورها برؤيته، وأثار غيرة أمه الشديدة، ثم نالت آخر الأمر سعادتها في السموات العلى. ولسنا نعرف مصوراً، بز بقلمه لسان هذا الأشيب السليط، في رواية هذه القصة القديمة.
المصادر
- ويليام جيمس ديورَانت متوفي 1981م، قصة الحضارة، ج11، ص36
قم بكتابة اول تعليق