

الشهيدة (دبشونـة)
هي فاطمة بنت يوسف بن محمد بن يوسف الأصفر، من مواليد 1891 بمدينة مزدة، تنحدر من قبيلة قنطرار العليا (الفوقيا). كانت ولادتها عسيرة وبالطريقة البدائية المعروفة (القابلة)، مما سبب لها إصابة بالعمود الفقري، الآمر الذي أدى إلى أن تعيش معاقة عاجزة عن المشي تحبو كما يحبو الطفل الصغير مما جعل أهلها يلقبونها بـ (دبشونة)، وكما نعلم من فقد شيء عوضه الله بشيء أفضل منه وأبدع فيه، فدبشونة حباها الله عقلاً وذكاءً وإدراكاً مالم يعطيه الله لقريناتها من النساء السويات، بالإضافة إلى براعتها في إتقان التداوي بالأعشاب (الطب البديل) نظراً لمجالستها نتيجة إعاقتها لنساء ذوات خبرة وتجربة ممن يكبرونها سناً وخبرة، فأتقنت المهنة وفاقتهم خبرة وبراعة. كما برعت في مجال الصناعات التقليدية كحياكة المنسوجات الصوفية التي اشتهرت بها نساء مزدة في منطقة القبلة.
وبعد مرور خمس وعشرون ربيعاً من عمر دبشونة دخلت قوات الاحتلال الإيطالي إلى مناطق الجبل الغربي، تحديدا منطقة جنذوبة بمدينة الأصابعة. وفي صبيحة أحد الأيام أستيقظ أهل مزدة على صوت الآذان مناديناً الله أكبر في غير موعد الصلاة، فهم الجميع للتجمع بغية معرفة الأمر الجلل الذي نودي فيهم، فكان النداء لأجل مؤازرة أخوانهم والوقوف بجانبهم في حربهم ضد المحتل الإيطالي، فلبى أهل مزدة النداء بالتهليل والتكبير، فكانت الفزعة يا رجال… وما أدراك بفزعة أهل صانعي البارود وشجاعتهم.
فجهز أهالي مزدة الأكل والعتاد، وكان من بينهم شقيق دبشونة الذي ملئ مخلاته بالتمر والوسويقة، زاداً له في ساحات الوغى، ليلحق بركب المجاهدين الشرفاء. فدنت له دبشونة وهي تزحف لتمسك بأحد ساقيه ترجوه وتتوسل إليه بأن يأخذها معه للجهاد لتشارك في شرف المعركة بغية نيل الشهادة في سبيل الله، وبأنها قادرة على تقديم يد العون في مداواة الجرحى وعلاج داء الرمد الذي كان منتشراً في ذاك الوقت. أستغرب الشقيق بدهشة شديدة طلب شقيقته المقعدة، وتحجج لها بأنها عاجزة وغير قادرة على المشي والجري (زحافة) وستكونين عالة علي وعلى رفاقي في الحرب لأن الكر والفر من دواعي القتال.
أصرت دبشونة على المشاركة ومرافقة شقيقها قائلةً له وهي ممسكة بساقه بقوة حتى آلمته … مجهشة بالبكاء … متوسلة له… أنا لا أمل لي في العيش مثل قريناتي من الأسوياء …. لأمل لي في الزواج مثل الأخريات … ربما هذه هي فرصتي لأنال الشهادة في سبيل الله والوطن. ورق لها قلب والدتها وطلبت من أبنها أن يأخذها معه، فما كان منه إلا الرضوخ لطلبها وإلحاحها الشديد، فجهز لها جملاً وهودجاً صغيراً يسمى (المحطة). استعد الجميع للسير إلى ميدان القتال وزغاريد النسوة وأصوات الرصاص ترفع من معنوياتهم، وكانت دبشونة تشارك بزغاريدها المدوية والمميزة عن باقي النسوة المودعات.
حطت رحال جميع المجاهدين بمنطقة (الهنشير) بالأصابعة واستقروا بها، واستعدوا لبداية المواجهة مع العدو المحتل، وعند بزوغ الفجر وانطلاق صوت الآذان ممزوجاً بأصوات الرصاص معلناً بداية المعركة التي كانت حامية الوطيس. كانت دبشونة تعمل بكل كد وجهد في علاج الجرحى في كوخ صغير خلف المجاهدين أعد لهذا الغرض. ونظراً لجهوزية العدو وتفوقه عدداً وعدة، قرر المجاهدين انسحاباً تكتيكياً بشكل منظم بحيث يتم إخلاء الجرحى والمصابين بداء الرمد، ويبقى المجاهدين في أرض المعركة ليتأكدوا بأن الجرحى والنساء قد أصبحوا في مأمن من العدو. ووضعت دبشونة على حملها وعاد شقيقها إلى أرض المعركة للاستمرار في القتال وعقل ركبته بعقال أشتهر به المجاهد الليبي، مردداً .. مرحب بالجنة جت تدنى …
إلا أن أحد ضعاف النفوس أنزل دبشونة من على حملها وأركب أبن عمه المصاب بالرمد بدلاً منها وتركها تزحف عائدةً إلى كوخها الصغير متحديتاً الصعاب طالبتاً الشهادة دون تردد أو أدنى خوف. عاد المجاهدون من المعركة ملتحقين بإخوانهم في أعلى وادي (للا) إلا أن شقيق دبشونة تفاجئ بعدم وجود الحمل الذي وضع عليه شقيقته، ولما سأل عنها أفاده بعضهم أن فلاناً قد قام بإنزالها وأركب أبن عمه، وأفاد مجاهداً آخر أنه شاهد دبشونة وهي تزحف إلى الكوخ المصنوع من القش، بينما قال ثالث أنه شاهد الكوخ يحترق بنيران الغزاة. فأصر الشقيق على العودة لإنقاذ شقيقته، ولكن قائد المجاهدين منعه من ذلك مؤكداً له أن في عودته ضرباً من الجنون خاصةً في هذا الوقت، وسهولة تمييز العدو للمجاهدين بملابسهم ذات الكم الواسع ونوعية أسلحتهم، ورضخ هذا البطل لأوامر قائده. وبعد مضي فترة من الزمن عن أحداث المعركة عاد شقيق دبشونة المجاهد بن يوسف متنكراً بزي راعي إلى موقع المعركة، وأتجه مباشرةً إلى موقع الكوخ فوجده عبارة عن كومة من الرماد وبقايا عظام بشرية، وبالبحث وجد حبات العقيق التي كانت برقبة شقيقته بين تلك العظام، فجمع كل ما وجده من رفات عائداً به إلى مزدة مسقط رأس دبشونة ليتم دفنها في مقبرة سيدي علي بن أمحمد بقنطرار الفوقيا، وقبرها لايزال معروفاً إلى وقتنا الراهن.
الشهيدة دبشونة فخر لكل مزداوية حرة … شرف لكل شريفات مزدة … نعتز أيما اعتزاز بأنها منا …. قدوة لكل الأحرار … لكل النسوة … فهذه من كانت معاقة لبت نداء حي على الجهاد … حي على الفلاح … فلتكن كل نساء مزدة وليبيا دبشونة الفخر والجهاد.
وطني مزدة
الجمعة 23 . ديسمبر. 2011
قم بكتابة اول تعليق